فصل في هديه صلى الله عليه في الذكر ,والتسميه وآداب الاكل والشرب
...
فصل:في هديه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في الذّكر
كان أكمل النّاس ذكراً لله ـ عزّ وجلّ ـ، بل كان كلامه كلّه في ذكر الله
وما والاه،
وكان أمره ونهيه وتشريعه ذكراً منه لله، وإخباره عن أسماء الرّبّ
وصفاته،
وأحكامه وأفعاله، ووعده ووعيده ذكراً منه له، وثناؤه عليه بآلائه
وتمجيده
وتسبيحه وتحميده ذكراً منه له، وسكوته ذكراً منه له بقلبه، فكان
ذكره لله
يجري مع أنفاسه قائماً وقاعداً، وعلى جنبه، وفي مشيه وركوبه
وسيره
ونزوله، وظعْنِه وإقامته.
وكان إذا استيقظ قال: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه
النّشور".
ثم ذكر أحاديث رويت فيما يقول إذا استيقظ، وإذا استفتح الصّلاة،
وإذا
خرج من بيته، وإذا دخل المسجد، وما يقول في المساء والصّباح،
وعند
لبس الثّوب، ودخول المنْزل، ودخول الخلاء، والوضوء والأذان،
ورؤية الهلال،
والأكل، والعطاس.
فصل
ثبت عنه ـ صلّ الله عليه وسلّم ـ أنّه سنّ الأذان بترجيعٍ وغير
ترجيعٍ، وشرع
الإقامة مثنى وفرادى، ولكن كلمة الإقامة: "قد قامت الصّلاة" لم
يصحّ عنه
إفرادها البتّة، وكذلك الذي صحّ عنه تكرار لفظ التّكبير في أوّل
الأذان، ولم يصحّ
عنه الاقتصار على مرّتين، وشرع لأمّته عند الأذان خمسة أنواع:
أحدها: أن يقولوا كما يقول المؤذّن إلاّ في الحيعلة، فأبدلها بـ: "لا
حول ولا قوّة
إلاّ بالله"، ولم يجيء عنه الجمع بينهما، ولا الاقتصار على الحيعلة،
وهذا
مقتضى الحكمة، فإنّ كلمات الأذان ذكر، وكلمة الحيعلة دعاء إلى
الصّلاة،
فسّن للسّامع أن يستعين على هذه الدّعوة بكلمة الإعانة.
الثّاني: أن يقول: "رضيت بالله ربّاً، والإسلام ديناً، وبمحمّدٍ
رسولاً"، وأخبر أنّ
مَن قال ذلك "غفر له ذنبه".
الثّالث: أن يصلّي على النَّبِيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بعد فراغه من
إجابة
المؤذّن، وأكملها ما علّمه أمّته، وإن تحذلق المتحذلقون.
الرّابع: أن يقول بعد الصّلاة عليه: "اللهم ربّ هذه الدّعوة التّامّة،
والصّلاة القائمة،
آتِ محمّداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً ".
الخامس: أن يدعوَ لنفسه بعد ذلك، وفي (السّنن) عنه: "الدّعاء لا
يُرَدُّ بين
الأذان والإقامة"، قالوا: فما نقول يا رسول الله؟ قال: "سلوا الله
العافية في
الدّنيا والآخرة". حديث صحيح.
وكان يكثر الدّعاء في عشر ذي الحجة، ويأمر فيه بالإكثار من
التّهليل والتّكبير
والتّحميد، ويذكر عنه أنّه كان يكبّر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى
العصر من آخر
أيّام التّشريق، فيقول : "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاّ الله، والله
أكبر، الله أكبر،
ولله الحمد ". وهذا وإن كان لا يصحّ إسناده، فالعمل عليه، ولفظه
هكذا بشفع
التّكبير، وأمّا كونه ثلاثاً، فإنّما روي عن جابر وابن عبّاس، مَن
فعلهما ثلاثاً نسقاً
فقط، وكلاهما حسن، قال الشّافعي: وإن زاد، فقال: الله أكبر كبيراً،
والحمد لله
كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. كان حسناً.
فصل
وكان إذا وضع يده في الطّعام قال: "بسم الله"، وأمر بذلك، ويقول
إن نسي:
"بسم الله في أوّله وآخره" . حديث صحيح. والصّحيح وجوب
التّسمية عند
الأكل، وتاركها شريكه الشّيطان في طعامه وشرابه، وأحاديث الأمر
بها صحيحة صريحة، ولا معارض لها،
ولا إجماع يُسوِّغ مخالفتها.
وهل تزول مشاركة الشّيطان بتسمية أحد الجماعة؟
فنصّ الشّافعي على إجزاء تسمية الواحد، وقد يقال: لا ترتفع
مشاركة الشّيطان
للآكل إلاّ بتسميته هو. وللتّرمذي وصحّحه عن عائشة: كان رسول الله ـ
صلّى الله عليه وسلّم ـ يأكل طعاماً في ستة من أصحابه، فجاء
أعرابي، فأكله بلقمتين، فقال رسول الله
ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "أمّا إنّه لو سمّى لكفاكم".
ومعلومٌ أنّه ـ صلّ الله عليه وسلّم ـ هو وأصحابه سمّوا
ويذكر عنه أنّه كان إذا شرب تنفس في الإناء ثلاثة أنفاس يحمد الله
في كلّ نفسٍ، ويشكره في آخرهن
.
وما عاب طعاماً قطّ، بل إن كرهه تركه وسكت. وربّما قال: "أجدُني
أعافه".
أي: لا أشتهيه.
وكان يمدح الطّعام أحياناً كقوله: "نعم الإدام الخل". لِمَن قال: ما
عندنا إلاّ خل.
تطييباً لقلب مَن قدمه، لا تفضيلاً له على سائر الأنواع، وكان إذا
قرب إليه
الطّعام وهو صائم قال: "إنّي صائم"، وأمر مَن قدّم إليه الطّعام
وهو صائم
أن يصلّي، أي: يدعو لِمَن قدّمه، وإن كان مفطراً أن يأكل منه.
وإذا دعي إلى طعامٍ، وتبعه أحدٌ، أعلم به ربّ المنْزل، فقال: "إنّ هذا
تبعنا،
فإن شئت أن تأذن له، وإن شئت رجع"، وكان يتحدث على طعامه،
كما
قال لربيبه: "سمِّ الله، وكُلْ مِمّا يليك" . وربّما كان يكرّر على
أضيافه عرض
الأكل عليهم مراراً كما يفعله أهل الكرم، كما في حديث أبي هريرة
في اللّبن.
وكان إذا أكل عند قومٍ، لم يخرج حتى يدعو لهم. وذكر أبو داود عنه
في قصة
أبي الهيثم: فأكلوا فلمّا فرغوا قال: "أثيبوا أخاكم". قالوا: يا رسول
الله، وما
إثابته؟، قال: "إنّ الرّجل إذا دخل بيته، فأكل طعامه، وشرب شرابه
فدعوا له،
فذلك إثابته".
وصحّ عنه أنّه دخل منْزله ليلة، فالتمس طعاماً، فلم يجده فقال:
"اللهم أطعم
مَن أطعمني، واسق مَن سقاني".
وكان يدعو لِمَن يضيّف المساكين، ويثني عليهم، وكان لا يأنف من
مؤاكلة أحدٍ
صغيرٍ كان أو كبيراً، حرّاً أو عبداً، ويأمر بالأكل باليمنى، وينهى عن
الشّمال،
ويقول: "إنّ الشّيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله". ومقتضاه
تحريم الأكل بها، وهو الصّحيح