حُجرةٌ مُظلِمة... نَافِذَتُها مُغلَقة... أبْوابُهَا موصَدة.. في رُكنِهَا البَعيد.... قلبٌ حَزين... وجهٌ عَبُوس... دموعٌ مُتساقِطَة... وِحدَةٌ قاتِلـَة... كآبةٌ طاغِية... وريقَة صَغيرة تتدلّى من إحدى يَديْه ... لعلَّ بِهَا من الكَلِماتِ ما يُسْريه، ويُذِهب حُزنَه ويُمْضِيه. تَذَكَّرَ موعِدًا... فَتحَرَّك مُتَباطِئًا للنُّهوض... بخُطا متثاقِلة يجُرُّ خَلفَهُ جبلًا من الهُموم... فهُوَ على مَوعِدٍ مع حلَقةٍ لإصلاحِ القُلوب عسَى أن يكونَ بِها ما يُذهِب عنهُ العَبُوس واليأسَ والقُنُوط ... وأثناء انتظارِ بِدء الحَلَقةِ... فَتَح الورقة... وقرأ ما بِها وتعَجَّب... وكأنَّها تُخاطِبُه وتَقولُ لَهُ : علامَ الحُزن يا رَجُل؟!! فإذا بالدّرس قد بدأ... ومَوضُوعُه قد تّغيّر وأصبَحَ بِعُنوان.... إذا أصابَ الإنسان حزن .. تجِد السرّور ليسَ لَه سبيلا إليه، والبؤس على وجهِه، ينعزِل عنِ النّاس، وتكونُ الكَآبة فراشِه والهمّ سمائه .... فلِمَاذا كلّ هذا ؟!! صحيح أنّ من طَبيعَة الإنسانِ أن يَحزَن إذا أصابتهُ مُصيبَة، ولكِنَّ المؤمِن لا يجعَل الحَزَن يتمَلّكهُ، ** فهُوَ يُفوِّض أمرَهُ إلى الله ** **ويعلَمُ عِلمَ اليَقين أنّ الله عليمٌ حَكيم له في كلّ أمرٍ حِكمة ** ** وأنّ قدرُ اللهِ كلّه خير ** ** وأنّ اليسر آتٍ بعدَ عُسر ** " فإنّ معَ العُسرِ يُسرا* إنّ معَ العُسرِ يُسرا " سورة الشرح5،6 ** "وعسَى أن تكرهوا شيئًا وهُوَ خيرٌ لَكُم وعسَى أن تُحِبُّوا شيئًا وهُو شرٌ لَكُم واللهُ يعلَمُ وأنتُم لا تعلمون " سورة البقرة 216 فإذا مرَّت عليهِ الآيات وأحاديث رسولِ الله .. اطمأنَّ قلبه، وزاح همّه. فيَا مَن أصَابتهُ الهُموم ، وأظلّتهُ الغُيوم ... اعلَم أنَّ الحَزَنَ مذموم ... ولهذا لم يأْمر الله به فى موضع قط ولا أَثنى عليه ... بل جاءَ نهيٌ عنه في غيرِ موضع فقالَ اللهُ تعالى : "وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " سورة آلَ عِمران 139 " إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعنَا " سورة التّوبة آية 40 فالحزن هو بلية من البلايا التى نسأَل الله دفعها وكشفها لذلِك يقولُ أهل الجنّة : " الحمدُ للهِ الذي أذهَبَ عَنَّا الحزَن " سورة فاطِر 34 وقد كانَ رسول اللهِ صلّى اللهُ علَيهِ وسَلّم يتعوّذ من الهَمِّ والحَزَنفاتّخِذ من رسولِ اللهِ قُدوة وادعُ بما دعا صباحًا ومساءًا : "اللَّهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال" والهمّ والحزَن قرينَان وكلاهُما ألمٌ للقَلب فالحَزَن : هو الألـــــم النّاتـــج على مــــــا مضــــى.
والهــمّ : هو الألَم النّاتج من خوفٍ على ما يُستَقبَل.
** فكُن على علمٍ أنّ ما مضَى فقد مَضى ولن تملِكَ الرّجوع إليه وتغييره ** ** والمُستقبَل فهُو في علمِ الغيب لا يعلَمه إلّا الله فتوكّل عليه وثق بالله ** ** وعِش يومَك و اسعَ فيه ولا يستوقِفَك حزن الماضي أو همّ المستقبَل ** الحزن يُضعف القلب ويُوهنُ العزم، ويضرّ الإرادة، ولا شيء أحبّ إلى الشيطان من حزن المؤمن، يقولُ اللهُ تعالى : " إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا " ** فإذَا أردتّ أن يفرح عدوُّك ويسعَد فكُن للحزنِ أهلا ** فالحزن مرض من أمراض القلب يمنعه من نهوضه وسيره وتشميره، والثواب عليه ثواب المصائب التى يبتلى العبد بها بغير اختياره، كالمرض والألم ونحوهما. واعلَم أنّه ... فلاحزن على دُنيَا إن كانَ اللهُ معَكوقولُ اللهِ تعالى حكايةً عن نبيِّه : " لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعنَا " فدلَّ أنه لا حزن مع الله، وأن من كان الله معه فما له وللحزن؟ رأى إبراهيم بن أدم رجلا مهموما فقال له: أيها الرجل إني أسألك عن ثلاث تجيبني .
قال الرجل: نعم.
* فقال له إبراهيم بن أدهم: أيجري في هذا الكون شئ لا يريده الله؟
قال : كلا
* قال إبراهيم : أفينقص من رزقك شئ قدره الله لك؟
قال: لا
* قال إبراهيم: أفينقص من أجلك لحظة كتبها الله في الحياة؟
قال: كلا
فقال له إبراهيم بن أدم: فعلام الحزن يا رجُل؟!!
وها أنَا أُجدِّد السّؤال لكلِّ مَهمومٍ حزِين. علامَ الحزن؟!! يقول الإمام الشّافعيّ في بعض أبياتِ شِعرِه سهرت أعيـن ، ونامـت عيون ... في أمور تكون أو لا تكونفادرأ الهم ما استطعت عن النفس ... فحملانك الهموم جـنـونإن ربـاً كفـاك بالأمس ما كان ... سيكفيك في غـدٍ ما يكون ** لا حزَنَ معَ الله **** وإنما الحزن كل الحزن لمن فاته الله ** فمن حصل الله له فعلى أى شيء يحزن؟!!ومن فاته الله فبأَى شيء يفرح؟ قال تعالى: " قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا " [يونس: 58]، فالفرح بفضله ورحمته تبع للفرح به سبحانه ( والمؤمن إما أن يحزن.. على تفريطه وتقصيره في طاعة ربه وعبوديته، وإما أن يحزن على تورّطه فى مخالفته ومعصيته وضياع أيامه وأوقاته. وهذا يدل على صحة الإيمان فى قلبه وعلى حياته، حيث شغل قلبه بمثل هذا الألم فحزن عليه، ولو كان قلبه ميتاً لم يحس بذلك ولم يحزن ولم يتألم، فما لجرح بميت إيلام، وكلما كان قلبه أشد حياة كان شعوره بهذا الألم أقوى، ولكن الحزن لا يجدى عليه، فإنه يضعفه كما تقدم.
بل الذى ينفعه أن يستقبل السير ويجد ويشمر، ويبذل جهده، وهذا نظير من انقطع عن رفقته فى السفر، فجلس فى الطريق حزيناً كئيباً يشهد انقطاعه ويحدث نفسه باللحاق بالقوم.
فكلما فتر وحزن حدث نفسه باللحاق برفقته، ووعدها إن صبرت أن تلحق بهم، ويزول عنها وحشة الانقطاع.
فهكذا السالك إلى منازل الأبرار، وديار المقربين) * .